ذاكرة مكان ..مقهى المصرف بمراكش

لم تكن المقاهي في حياتنا مجرد أماكن لتمضية الوقت، بل شكلت جزءًا من النسيج الاجتماعي والثقافي، حيث منحت اليومي نكهة خاصة وأصبحت عادة تنظم إيقاع الحياة. وفي مراكش، تحمل هذه الفضاءات ذاكرة غنية تعود إلى العقود الأولى من القرن العشرين، حينما انتشرت المقاهي الشعبية قرب أحياء المدينة، استجابةً لحاجة متزايدة لإضفاء مسحة جمالية على الحياة اليومية.
من بين هذه المقاهي، برزت قهوة المصرف، التي لم يعد لها أثر اليوم، والتي حملت اسمها من الساقية التي كانت تسقي بساتين وعراصي مراكش، مثل عرصة ابن إدريس. كانت القهوة تتخذ موقعها في سيدي ميمون، بالقرب من ضريح يوسف بن تاشفين، حيث اجتمع فيها الحرفيون بعد صلاة العصر، يفترشون الحصير تحت سقف من القصب الذي تلتف عليه عروش الدوالي، بينما تتدلى عناقيد العنب، ويحتسون الشاي المعدّ في “المغلّي” أو “الزيزوا”، ويُصب في كؤوس ممتلئة بالنعناع والسكر.
في ذلك الزمن، لم تكن هناك وسائل تسخين متطورة سوى “البابور”، وكانت الأرض تُرش بالماء قبل فرش الحصير، فتنبعث رائحة التراب السخية مع غروب الشمس، بينما يستمتع الزبناء بهمس مياه الساقية التي تخترق المقهى، وهم يدخنون الكيف الذي لم يكن آنذاك محظورًا، بل جزءًا من طقوس الاسترخاء.
لكن ما جذب الرواد إلى قهوة المصرف لم يكن مجرد المشروبات أو الجلسات، بل الموسيقى. في غياب أجهزة المذياع في البيوت، كانت المقاهي فضاءً لاكتشاف روائع الفن الشرقي، حيث يستمع المرتادون إلى أغاني محمد عبد الوهاب، أم كلثوم، أسمهان، وفريد الأطرش، إلى جانب أعمال بعض الفنانين المغاربيين، مثل علي الرياحي بأغنيته الشهيرة زينة بنت الهنشيرة. وكانت أسطوانات الموسيقى تُعرف حينها بـ”الورق”.
لم تكن النساء جزءًا من هذه الفضاءات، التي كانت ملاذًا جماليًا لحرفيي المدينة. وتنافست قهوة المصرف مع مقاهٍ أخرى على تقديم جديد الفن والموسيقى، مثل قهوة الأمين قرب دار المتوكي، وقهوة مولاي عبد السلام بجامع الفنا، التي تخصصت في بث أغاني عبد الوهاب وأم كلثوم، وقهوة زروال قرب سقاية المواسين، وقهوة الشاميات التي تحولت لاحقًا إلى سينما، ثم إلى قيسارية. كما اشتهرت منطقة رياض العروس بكثرة مقاهيها، حتى لقبت بـ”بين القهاوي”، حيث ضمت قهوة العياشي، قهوة الحنصالي، وقهوة السيقدور.
هكذا، شكلت مقاهي مراكش في ذلك الزمن أكثر من مجرد أماكن للقاء، بل كانت مساحات للترفيه، والفن، والتواصل، حافظة لذاكرة المدينة الحمراء وإيقاع حياتها اليومية.